الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وعن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال: أريد أن أدخل فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لقد قيل لمن هو خير منك {لوليت منهم فرارًا} فدخلت جماعة بأمره فأحرقتهم ريح.{وكذلك بعثناهم} وكان أنمناهم تلك النومة كذلك أيقظناهم إظهارًا للقدرة على الإنامة والبعث جميعًا {لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ} ليسأل بعضهم بعضًا ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيعتبروا ويستدلوا على عظم قدرة الله ويزدادوا يقينًا ويشكروا ما أنعم الله به عليهم {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} رئيسهم {كَمْ لَبِثْتُمْ} كم مدة لبثكم؟ {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} جواب مبني على غالب الظن، وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب {قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} بمدة لبثكم إنكار عليهم من بعضهم كأنهم قد علموا بالأدلة أو بإلهام أن المدة متطاولة وأن مقدارها لا يعلمه إلا الله.ورُوي أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم بعد الزوال فظنوا أنهم في يومهم، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وأشعارهم قالوا ذلك: وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما على أن الصحيح عددهم سبعة لأنه قد قال في الآية: {قال قائل منهم كم لبثتم} وهذا واحد، وقالوا في جوابه {لبثنا يومًا أو بعض يوم} وهو جمع وأقله ثلاثة، ثم قال: {ربكم أعلم بما لبثتم} وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة {فابعثوا أَحَدَكُمْ} كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك لا طريق لكم إلى علمه فخذوا في شيء آخر مما يهمكم فابعثوا أحدكم أي يمليخا {بِوَرِقِكُمْ} هي الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة، وبسكون الراء: أبو عمرو وحمزة وأبو بكر {هذه إلى المدينة} هي طرسوس وحملهم الورق عند فرارهم دليل على أن حمل النفقة وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتكلين على الاتفاقات وعلى ما في أوعية القوم من النفقات.وعن بعض العلماء أنه كان شديد الحنين إلى بيت الله ويقول: ما لهذا السفر إلا شيئان شد الهميان والتوكل على الرحمن {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا} أي أهلها فخذف كما في {واسئل القرية} [يوسف: 82] وأي مبتدأ وخبره {أزكى} أحل وأطيب أو أكثر وأرخص {طَعَامًا} تمييز {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ} وليتكلف اللطف فيما يباشره من أمر المبايعة حتى لا يغبن أو في أمر التخفي حتى لا يعرف {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور بنا من غير قصد منه فسمى ذلك إشعارًا منه بهم لأنه سبب فيه.والضمير في {أَنَّهُمْ} راجع إلى الأهل المقدر في {أيها} {إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} يطلعوا عليكم {يَرْجُمُوكُمْ} يقتلوكم أخبث القتلة {أَوْ يُعِيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ} بالإكراه، والعود بمعنى الصيرورة كثير في كلامهم {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا} {إذًا} يدل على الشرط أي ولن تفلحوا إن دخلتم في دينهم أبدًا.{وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} وكما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عليهم {لِيَعْلَمُواْ} أي الذين أطلعناهم على حالهم {أَنَّ وَعْدَ الله} وهو البعث {حَقّ} كائن لأن حالهم في نومهم وانتباههم بعدها كحال من يموت ثم يبعث {وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا} فإنهم يستدلون بأمرهم على صحة البعث {إِذْ يتنازعون} متعلق ب {أعثرنا} أي أعثرناهم عليهم حين يتنازع أهل ذلك الزمان {بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} أمر دينهم ويختلفون في حقيقة البعث فكان بعضهم يقول: تبعث الأرواح دون الأجساد، وبعضهم يقول: تبعث الأجساد مع الأرواح ليرتفع الخلاف وليتبين أن الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت {فَقَالُواْ} حين توفى الله أصحاب الكهف {ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا} أي على باب كهفهم لئلا يتطرق إليهم الناس ضنًا بتربتهم ومحافظة عليها كما حفظت تربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحظيرة {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا {ربهم أعلم بهم} أو من كلام الله عز وجل ردًا لقول الخائضين في حديثهم {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ} على باب الكهف {مَّسْجِدًا} يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم.رُوي أن أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم حتى عبدوا الأصنام وأكرهوا على عبادتها وممن شدد في ذلك دقيانوس، فأراد فتية من أشراف قومه على الشرك وتوعدهم بالقتل فأبوا إلا الثبات على الإيمان والتصلب فيه، ثم هربوا إلى الكهف ومروا بكلب فتبعهم فطردوه.فأنطقه الله تعالى فقال: ما تريدون مني إني أحب أحباء الله فناموا وأنا أحرسكم.وقيل: مروًا براعٍ معه كلب فتبعهم على دينهم ودخلوا الكهف فضرب الله على آذانهم، وقبل أن يبعثهم الله مَلِكَ مدينتهم رجل صالح مؤمن، وقد اختلف أهل مملكته في البعث معترفين وجاحدين، فدخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحًا وجلس على رماد وسأل ربه أن يبين لهم الحق، فألقى الله في نفس رجل من رعيانهم فهدم ما سد به فم الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه.ولما دخل المدينة من بعثوه لابتياع الطعام وأخرج الورق وكان من ضرب دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزًا فذهبوا به إلى الملك فقص عليه القصة، فانطلق الملك وأهل المدينة معه وأبصروهم وحمدوا الله على الآية الدالة على البعث.ثم قالت الفتية للملك: نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس، ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم فألقى الملك عليهم ثيابه وأمر فجعل لكل واحد تابوت من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجدا.{سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بالغيب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} الضمير في {سيقولون} لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، وأهل الكتاب سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه فيهم فنزلت إخبارًا بما سيجري بينهم من اختلافهم في عددهم، وأن المصيب منهم من يقول سبعة وثامنهم كلبهم.ويُروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد: وكان يعقوبيا كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم.وقال العاقب: وكان نسطوريا كانوا خمسة سادسهم كلبهم.وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم.فحقق الله قول المسلمين.وإنما عرفوا ذلك بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما ذكرنا من قبل.وعن علي رضي الله عنه: هم سبعة نفر أسماؤهم: يمليخا ومكشلينا ومشليينار هؤلاء أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره والسابع الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس، واسم مدينتهم أفسوس واسم كلبهم قطمير.وسين الاستقبال وإن دخل في الأول دون الآخرين فهما داخلان في حكم السين كقولك قد أكرم وأنعم تريد معنى التوقع في الفعلين جميعًا، أو أريد ب {يفعل} معنى الاستقبال الذي هو صالح له {ثلاثة} خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلاثة، وكذلك {خمسة} و{سبعة} و{رابعهم كلبهم} جملة من مبتدأ وخبر واقعة صفة لـ: {ثلاثة} وكذلك {سادسهم كلبهم} و{ثامنهم كلبهم رجمًا بالغيب} رميًا بالخبر الخفي وإتيانا به كقوله: {ويقذفون بالغيب} [سبأ: 53] أي يأتون به، أو وضع الرجم موضع الظن فكأنه قيل: ظنا بالغيب لأنهم أكثروا أن يقولوا رجم بالظن مكان قولهم ظن حتى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين.والواو الداخلة على الجملة الثالثة هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة النكرة كما تدخل على الواقعة حالًا عن المعرفة في قولك جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف.والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا {سبعة وثامنهم كلبهم} قالوه عن ثبات علم ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم دليله أن الله تعالى أتبع القولين الأولين قوله: {رجمًا بالغيب} وأتبع القول الثالث قوله: {قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} أي قل ربي أعلم بعدّتهم وقد أخبركم بها بقوله: {سبعة وثامنهم كلبهم} {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من ذلك القليل.وقيل: إلا قليل من أهل الكتاب، والضمير في {سيقولون} على هذا لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وأكثرهم على ظن وتخمين {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ} فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف {إِلاَّ مِرَاء ظاهرا} إلا جدالًا ظاهرًا غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد من غير تجهيل لهم أو بمشهد من الناس ليظهر صدقك {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَدًا} ولا تسأل أحدًا منهم عن قصتهم سؤال متعنت له حتى يقول شيئًا فترده عليه وتزيف ما عنده ولا سؤال مسترشد لأن الله تعالى قد أرشدك بأن أوحى إليك قصتهم.{وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء} لأجل شيء تعزم عليه {إِنّى فَاعِلٌ ذلك} الشيء {غَدًا} أي فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد خاصة {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} أن تقوله بأن يأذن ذلك لك فيه، أو ولا تقولنه إلا بأن يشاء الله أي إلا بمشيئته، وهو في موضع الحال أي إلا ملتبسًا بمشيئة الله قائلًا إن شاء الله.وقال الزجاج: معناه: ولا تقولن إني أفعل ذلك إلا بمشيئة الله تعالى، لأن قول القائل أنا أفعل ذلك إن شاء الله معناه: لا أفعله إلا بمشيئة الله، وهذا نهي تأديب من الله لنبيه حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين فسألوه فقال: ائتوني غدًا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه {واذكر رَّبَّكَ} أي مشيئة ربك وقل إن شاء الله {إِذَا نَسِيتَ} إذا فرط منك نسيان لذلك، والمعنى إذا نسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر، عن الحسن: مادام في مجلس الذكر.وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ولو بعد سنة.وهذا محمول على تدارك التبرك بالاستثناء، فأما الاستثناء المغير حكمًا فلا يصح إلا متصلًا، وحُكي أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه الله خالف ابن عباس رضي الله عنهما في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال له أبو حنيفة: هذا يرجع عليك إنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن كلامه وأمر الطاعن فيه بإخراجه من عنده.أو معناه واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء تشديدًا في البعث على الاهتمام بها، أو صل صلاة نسيتها إذا ذكرتها، أو إذا نسيت شيئًا فاذكره ليذكرك المنسي {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِى رَبّى لأَِقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا} يعني إذا نسيت شيئًا فاذكر ربك، وذكر ربك عند نسيانه أن تقول: عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه رشدًا وأدنى خيرًا ومنفعه.{أن يهدين}، {إن ترن}، {أن يؤتين}، {أن تعلمن}.مكى في الحالين، ووافقه أبو عمرو ومدني في الوصل.{وَلَبِثُواْ في كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةِ سِنِينَ} يريد لبثهم فيه أحياء مضروبًا على آذانهم هذه المدة وهو بيان لما أجمل في قوله: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددًا} وسنين عطف بيان لثلثمائة.ثلثمائة سنين بالإضافة: حمزة وعليّ، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله: {بالأخسرين أعمالًا} [الكهف: 103] {وازدادوا تِسْعًا} أي تسع سنين لدلالة ما قبله عليه {تسعًا} مفعول به لأن زاد تقتضي مفعولين فـ: ازداد يقتضي مفعولًا واحدًا {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} أي هو أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدة لبثهم والحق ما أخبرك به، أو هو حكاية لكلام أهل الكتاب و{قل الله أعلم} رد عليهم، والجمهور على أن هذا إخبار من الله سبحانه وتعالى أنهم لبثوا في كهفهم كذا مدة {لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض} ذكر اختصاصه بعلم ما غاب في السماوات والأرض وخفي فيها من أحوال أهلها {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} أي وأسمع به والمعنى ما أبصره بكل موجود وما أسمعه لكل مسموع {مَالَهُم} لأهل السموات والأرض {مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ} من متول لأمورهم {وَلاَ يُشْرِكُ في حُكْمِهِ} في قضائه {أَحَدًا} منهم، ولا تشرك على النهي: شامي.كانوا يقولون له ائت بقرآن غير هذا أو بدله فقيل له: {واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كتاب رَبّكَ} أي من القرآن ولا تسمع لما يهذون به من طلب التبديل فإنه {لاَ مُبَدّلَ لكلماته} أي لا يقدر أحد على تبديلها أو تغييرها إنما يقدر على ذلك هو وحده {وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك.ولما قال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نحِّ هؤلاء الموالي وهم صهيب وعمار وخباب وسلمان وغيرهم من فقراء المسلمين حتى نجالسك نزل:{واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} واحبسها معهم وثبتها {بالغداة والعشى} دائبين على الدعاء في كل وقت، أو بالغداة لطلب التوفيق والتيسير، والعشي لطلب عفو التقصير، أوهما صلاة الفجر والعصر.{بالغُدوة} شامي {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} رضا الله {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} ولا تجاوز، عداه إذا جاوزه وعدى بـ: عن لتضمن عدا معنى نبا في قولك نبت عنه عينه، وفائدة التضمين إعطاء مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى قد {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} في موضع الحال {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} من جعلنا قلبه غافلًا عن الذكر وهو دليل لنا على أنه تعالى خالق أفعال العباد {واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} مجاوزًا عن الحق {وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ} أي الإسلام أو القرآن، و{الحق} خبر مبتدأ محذوف أي هو {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ} أي جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك.وجيء بلفظ الأمر والتخيير لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ماشاء من النجدين.ثم ذكر جزاء من اختار الكفر فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا} هيأنا {للظالمين} للكافرين فقيد بالسياق كما تركت حقيقة الأمر والتخيير بالسياق وهو قوله: {إنا أعتدنا للظالمين} {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق وهي الحجرة التي تكون حول الفسطاط، أو هو دخان يحيط بالكفار قبل دخولهم النار، أو هو حائط من نار يطيف بهم {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ} من العطش {يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل} هو دردى الزيت أو ما أذيب من جواهر الأرض وفيه تهكم بهم {يَشْوِى الوجوه} إذا قدم ليشرب انشوى الوجوه من حرارته {بِئْسَ الشراب} ذلك {وَسَاءتْ} النار {مُرْتَفَقًا} متكأ من الرفق وهذه لمشاكلة قوله: {وحسنت مرتفقا} وإلا فلا ارتفاق لأهل النار.وبين جزاء من اختار الإيمان فقال: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} كلام مستأنف بيان للأجر المبهم، ولك أن تجعل {إنَّا لا نضيع} و{أولئك} خبرين معًا.والمراد من أحسن منهم عملًا كقولك السمن منوان بدرهم، أو لأن {من أحسن عملًا} و{الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ينتظمهما معنى واحد فأقام من {أحسن} مقام الضمير {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ} {من} للإبتداء، وتنكير أساور وهي جمع أسورة التي هي جمع سوار لإبهام أمرها في الحسن {مّن ذَهَبٍ} {من} للتبيين {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ} ما رَقَّ من الديباج {وَإِسْتَبْرَقٍ} ما غلظ منه أي يجمعون بين النوعين {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك} خص الاتكاء لأنه هيئة المتنعمين والملوك على أسرتهم {نِعْمَ الثواب} الجنة {وَحَسُنَتْ} الجنة والأرائك {مُرْتَفَقًا} متكأ. اهـ.
|